ثُمَّ يقول الرازي: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية -وهما قريبان من بعض- فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً -وهذه المقولة مقولة مجرب عالم بصير- ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، بل الصواب محصور فيها وحدها، في طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طـه:5] ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)) [فاطر:10]وكما هو معلوم أن أمر العقيدة يدور عَلَى مسألتين: عَلَى النفي والإثبات، ماذا نثبت لله عز وجل، وماذا ننفي عنه؟ بالأخص في موضوع الأسماء والصفاتفَيَقُولُ: إذا قرأت في الإثبات ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طـه:5] ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)) [فاطر:10] الآيات.
أفهم بجلاء وبوضوح أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فوق المخلوقات، عالٍ عَلَى جميع المخلوقات سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مع أن الرازي له كلام شديد وطويل في نفي العلو، فَيَقُولُ: دعك من هذا كله واقرأ في الإثبات ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طـه:5] ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)) [فاطر:10] وإذا بك تجد نفسك مؤمناً بعلو الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وبجميع الصفات، التي وردت في الإثبات ثُمَّ قَالَ: واقرأ في النفي ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11] الآية تكفيك من أن تقول: ليس بجوهر ولا عرض، ولا مادة ولا مركب ولا متحيز، فكل كلمة من هذا الكلام تحتمل تفصيلات ونقاشات؛ لكن الله تَعَالَى يقول: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11] فتكفيك هذه في النفي، وفي التنزيه لله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وقوله: ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)) [طـه:110].
فإذا عرفنا أننا لا نحيط بالله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- علماً فهذا موجب لعدم الخوض في أمر من أمور الغيب، وفيما يتعلق بصفاته تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لأن علمنا قاصر محدود عن إدراك هذه الأمور، فنؤمن به كما أخبر، ونتبع قول أعلم النَّاس به وأتقاهم له وهو رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قلنا: إن العلم الصحيح يورث التقوى، فعندما كانت معرفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صحيحة حقيقية أورثت التقوى، فأصبح بذلك أعرف النَّاس بربه وأخشاهم وأتقاهم له، وكذلك كل من كَانَ عَلَى طريقتة ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) [فاطر:28] فكلما كَانَ الإِنسَان أكثر علماً، كلما كَانَ أكثر خشية، كما قال سفيان رَحِمَهُ اللَّهُ: في تفسير هذه الآية
ثُمَّ يقول الرازي: "ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".
والمشكلة أنهم يقولون هذا الكلام الصريح الجلي ويأتي تلاميذهم وينسون هذا الكلام، ويأخذون بما في كتبهم، وهكذا الجويني رأى مارآه الرازي ثُمَّ أعلن توبته كما سيأتي، ثُمَّ جَاءَ أبو حامد الغزالي تلميذه وأخذ يسلك المناهج وفي الأخير تاب أبو حامد، وعندما جَاءَ من بعده الرازي لم يقل: نبدأ من حيث انتهى الغزالي، فنبدأ من صحيح البُخَارِيّ بل بدأ بما نهى عنه الغزالي وألف في ذمه كتاب إلجام العوام عن علم الكلام ثُمَّ جَاءَ الرازي واشتغل طول عمره في علم الكلام، وفي الأخير عند الموت وإذا به يقول: هذا الكلام، ويقول: أقرب الطريق طريقة القرآن، ثُمَّ أتى الإيجي صاحب المواقف الذي هو حجة في علم الكلام عند أكثر أهل الكلام في هذا العصر، فترك كلام الرازي الأخير، وأخذ ينقل من كلامه في الأربعين، ومن كلامه في التفسير.

وهكذا نجد الخطأ يتكرر، وهذا من أعجب العجب! فالعاقل يتعظ بغيره، لكن هَؤُلاءِ لا يتعظون بقول الرازي: من جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. الذي يتعظ بغيره لا يحتاج أن يجرب، ثُمَّ ضم إِلَى هذه العبارة قول أبي حامد الغزالي: "وهذا يعني ذم علم الكلام إذا سمعته من محدِّث أو حشوي ربما خطر ببالك أن النَّاس أعداء ما جهلوا" لأن أهل الحديث يكرهون علم الكلام.
يقول: [فاسمع هذا ممن خبر الكلام -يعني: نفسه- ثُمَّ قاله بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إِلَى منتهى درجة المتكلمين] أي خذ هذا الذم لعلم الكلام ممن بلغ هذه الدرجة، وبعد هذا أين من يعتبر؟ وأين من يتعظ؟ فهَؤُلاءِ أربعة: ابن رشد، الآمدي، الغزالي، الرازي قد قالوا هذا الكلام.